المتابعون

الاثنين، 16 يوليو 2012

ذئب ٌ وقزم







نظر قيسٌ من منظاره إلى أيامه الخالية ، وهو بعيد عنها كثيرا ، ليراها قطعة واحدة
إذ تعذر عليه فهم أيامه المتمزقة وما تحمله من مغزى !!
رأى البداية التي صنعها رب النهايات ، فأقدار السماء تعشق لونها الأزرق وترسم به ، وهو كان يعشق اللون الأحمر ويرسم به ، لونان جميلان ولا خلاف عليهما ، لكنهم رسموا لوحة لحياة شخص واحد ، امتزجوا فنتج اللون البنفسجي الذي يكرهه القدر ويكرهه قيس وتحبه الذكريات الأليمة فقط !
فاعتزل قيس الرسم وساد لون البنفسج ...
في حداثته كان يهوى اللعب ، فيختار صديقة ً من الدمى يشكوها ويحضنها وقت البكاء ويلهو معها أثناء الوحدة وتبقى بجانبه في محنته لا لشيء سوى لأنها لا تقوى على الحراك ، واتخذ دراجته رفيقا ً لدربه فكم تحملت عثرات الطريق وإن بليت وكم تحملت جهله في القيادة ، أطلق طائرته الورقية التي كانت تعبر عن حلمه البعيد المسافر ، الذي يحلق بعيدا عن أرض واقعنا ، تضيع طائرته الورقية في رحب السماء ، وتحتار أن تجد له أملا تقوى على اصطحابه إلى أرضه ذات المستوى السافل ، ويضيع هو الآخر تائها ً بين دروب الأرض والسماء ، ولا يفقد الأمل إلا عندما تكبح جماحه شمس المغيب ، فيُنزل طائرته الورقية ويعود خائبا ً وهو لا يدري ، وفرحا ً بضياع وقته اللامفيد .
... وهكذا تربى منذ الصغر ، أن الوفاء مجرد دمية نشتريه بثمن ويبيعه الزمن ولكن بلا ثمن ، وأن رفيق الدرب ليس سوى وسيلة مواصلات أو تسلية على قارعة الطريق متى تعثرت معه الأيام تركه رفيق دربه كالدراجة التي ترمي طفلها فورا ًعندما يتعثر دولابها بحجر ، تعلـّم أن يكون حلمه كطائرة ورقية ، لا يضمنه سوى خيط أمل ضعيف ، ومهما امتد الحلم فهو لا يتجاوز قبضة يده ولا مجال لأن تقوى الإرادة على المستطاع .
فاعتزل اللعب ومزق طائرته الورقية ...
أصبح قيس بعد ذلك طائرة ورقية أخرى ، تهرب من الواقع والحقيقة ، وكان يهوى أفلام الكرتون ، فمن ليلى والذئب إلى فلة والأقزام السبعة إلى الأميرة والوحش ، لم تنتهي ( إلى ) ولكن منظاره وجد النهاية ، كل شيء جميل هو أنثى : الأميرة وليلى وفلة ، وكل شيء بشع هو ذكر فإما قزم أو ذئب أو وحش ، وهنا تجسدت فيه البشاعة ، فما أجمل بشاعة الوحوش والأقزام مقارنة ببشاعة الروح التي تتركها لنا قذارة الأيام .
أصبح يكره أناه وهو لا يشعر ، ويبحث عن أي شيء ضده ليحبه ويزيد من كره نفسه ، بحث عن أنثى جميلة فوجدها بلا عناء ، فما أكثر جميلات البشر ، لكنه لم ير َ فيها طيبة فلة ولا إحسان الجميلة ولا إصرار ليلى ، فكره أنثاه وكره مذكره وذكراه .
فاعتزل الهروب من الحقيقة ، ولجأ للكر إلى الهلاك ...
هلاكه ابتدأ بصورة إنسانية : رجل أدمن الأمر العادي ، واتخذ حياة الروتين حصنا منيعا له من أحلام بابها وردي ٌ ونافذتها صنعت في بلاد جهنم
يشرب قهوته الحلوة كل صباح التي هي بطبيعتها مُرّة ، ولكن تحليتها كانت أنها فنجان يتوسط زمانا ً أمر ّ من قهوته ، فأصبح يحتسيها كحنظل ويصنع من خياله الشاحب طعم السكر .
يتصفح جريدته ليقرأ الأخبار وينسى أخباره المزعجة ، بعد أن أدمن ازعاج نفسه لنفسه وأسرته أصبح يبحث أولا ً عن ازعاج السياسة ، فأينما ذهبت الحروب كان حاضرا في ميادينها بين المحارب والمحارب ، ليأكل الضرب رأسَه فقط .
وبعد أن يدرك أن السياسة خلقت ليسوس البشر البهائم ، عزت عليه بشريته .
فاعتزل السياسة خوفا ً من ازدياد البهيمية ، لكنها استمرت ...
فذهب إلى اللقاءات والبيانات الكاذبة ، وأول كذباتها : أعزائي ، أكبر دلالاتها : في الحقيقة ، ولكننا اعتدنا تصديق الكذب وصدقنا ونصدق وسنصدق مهما كذبوا .
لكنه مل ّ الاستماع وأراد أن يشارك عالمه السخيف بالرأي !! جلس مع أصدقاءه يطرحون آراءهم حول المذنب بين النازيين وقتلى الهولوكوست ، طال مجلسهم ولم يصلوا لرأي محدد ، مر ّ بهم غجري من روما وقال لهم باختصار : المذنب هو الفلسطيني !! فاتفقوا على رأي غيرهم لأنهم لا يريدون لرأي منهم أن يكون سديدا .
فإذا تكاثرت الآراء العربية فإن فاروقها قرار أجنبي .
بعد ذلك اعتزل قيس السياسة ، واقتنع بأن لا يجهد بالرأي وينعم في راحته بانتظار القرار .

لم ير َ منظاره شيئا ً عن السبب ، لأن السبب هو قيس نفسه ولا شيء غير ذلك
كل ما جرى في حياته كان ذنبه ، مشكلته وجوده فقط ، كينونته هي المعادلة الأصعب التي لا تجد حلا ً سوى العدم .
فهيا قيس إلى العدم ، فكلنا خلقنا للمقابر والعدم
أميرتنا لم تعد ملكا ً لنا ولا إلى الخدم
هي ليست ملكا ً لأحد هي ليست سوى صنم
حكاية أطفال هي منذ القِـدَم
اليوم تعيشها وأنت ذئب ٌ وغدا ً في نظرها .. أنت قزم .


بقلم الكاتب : محمد السيد أبو جامع

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق